الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال السادة الشافعية إن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتدّ على الكفر إلى الموت، وقالوا إن ترك التقييد هنا اعتماد على التصريح به في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} الآية 218 من سورة البقرة في ج 3، وقالوا إن هذه الآية من حمل المطلق على المقيد.وقال بعض الحنفية في الرد عليهم: إن في الآية المستدل بها توزيعا وكيفيته أن قوله تعالى: {فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} ناظر إلى الارتداد في الدين، وقوله {وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ} إلخ ناظر إلى الموت على الكفر، وعليه فلا قيد فيها للآية التي نحن بصددها ليصح الاحتجاج بها متى حمل المطلق على المقيد، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاة سيد الأنام أو قبلها إلا أنه لم يره هل يسلب عنه اسم الصحبة أم لا؟ فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا، وهو ما عليه الحنفية، ومن ذهب إلى التقييد قال نعم، وهو ما عليه الشافعية.وليعلم أن هكذا خلافات وأمثالها بين الأئمة لا علاقة لها بأصول الدين المجمع عليها إذ لم يقع اختلاف ما قط في ذلك.أما ما يتعلق في الفروع فإن ما يقع من الاختلاف فيها عبارة عن اختلاف الرأي والاجتهاد، وهذا مما لا يخلو منه البشر في كل زمان ولا يضر بل يحصل من تصادم الأفكار وتحاكك الآراء فيه فوائد جلى ومنافع عظمى، لأنك إذا لم تقدح الزناد على الحصى لم تحصل النار {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 66} الدائبين على شكر النعم المتوالية عليك من ربك فيزيدك بها فضلا، قال تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ولا عظموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته حين دعوك قومك يا محمد إلى عبادة آلهتهم وأشركوا بالإله الواحد ما لا يستحق العبادة وجعلوا له بنين وبنات وهو منزه عن ذلك كله وكيف يكون هذا {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} بما فيها من جبال وأبحار وغيرها {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} بما فيها من كواكب وخلائق وغيرها {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ 67} به من الأوثان، راجع الآية 91 من سورة الأنعام المارة تنبئك عما يتعلق في هذه الآية العظيمة المصورة لعظمة جلال اللّه والموقفة على كنه هيبته.والقبضة المرة الواحدة من القبض وهي المقدار المقبوض بالكف، مع العلم بأن هذه الآية مكية، وتلك التي بالأنعام مدنية.روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: يطوي اللّه السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون.وفي رواية يقول أنا اللّه ويقبض أصابعه أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أني أقول أساقط هو برسول اللّه، لفظ مسلم.وللبخاري: إن اللّه يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك.ورويا عن عبد اللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه: جاء جبريل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد إن اللّه يضع السماء على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول أنا الملك.فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: يقبض اللّه الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض.قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى اللّه عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه بيمين وليس لها عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، ويصح أن يقال عقيدة: له جل شأنه يد لا كالأيدي ووجه لا كالأوجه وهكذا إجراؤها على حالها دون تأويل أو تفسير، وتنتهي بها إلى حيث انتهى بها كتاب اللّه والأخبار المأثوره الصحيحة في كل آية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها قبلا في مواقع كثيرة كالآية 158 من الأنعام المارة وغيرها ففيها ما تبتغي، ولهذا البحث صلة في الآية 105 من سورة الأنبياء الآتية.
.مطلب ما هو النفخ في الصور ولما ذا وفي الصعق ومن هم الشهداء: قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} القرن الذي قدمنا بحثه في الآية 73 من سورة الأنعام بصورة مفصلة فراجعها، والنافخ هو سيدنا إسرافيل عليه السلام {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي مات خوفا وجزعا من هول الصيحة الأولى {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} راجع الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1، تعلم المستثنيين من الموت عند النفخة الأولى.قال السيد محمد الهاشمي في شرحه شطرنج العارفين للشيخ محي الدين العربي قدس اللّه سره: إن المستثنين سبع 1 الجنة 2 والنار 3 والعرش 4 والكرسي 5 واللوح 6 والقلم 7 والأرواح، واللّه أعلم بذلك.وإذ كان بين النفختين مدة لا يعلم حقيقتها إلا اللّه جاء العطف في الآخرة على الأول بما يدل على التراخي، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} ماذا يأمر اللّه فيهم بعد قيامهم من قبورهم، وقيل إن ما بين النفختين أربعون سنة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما بين النفختين أربعون، قالوا أربعون يوما؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهرا؟ قال أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت وهذا ورع منه رضي اللّه عنه لأنه لم يسمع من الرسول ما يتذكره على الضبط هل هي ساعات أم أيام أو شهور أو سنون، ولم يتذكر إلا لفظ الأربعين، ولهذا لم يتجاسر على تمييزها، هذا أبو هريرة الذي يطعن في أحاديثه من لا خلاق له من التقوى، فإذا كان لا يستطيع أن يبين ماهية الأربعين في الحديث وهو عبارة عن أخبار لا علاقه لها في الأحكام والحدود، فكيف يتصور أن يقول شيئا لم يسمعه من حضرة الرسول فيما يتعلق فيها وكيف يظن به أن يتكلم بشيء لم يتحققه، ألا فلينتبه المتقولون وليتقوا اللّه في أصحاب رسوله ولا يظنوا بهم إلا الخير والصدق، وليحذروا أن ينسبوا إليهم غير ذلك، وقد سمعوا من نبيهم قوله: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ثم ينزل اللّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من شيء إلا يبلى إلا عظم واحد هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة، وقدمنا ما يتعلق بعجب الذنب في الآية 99 من سورة الإسراء ج 1 فراجعه.قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها} حين تجلى لفصل القضاء بين خلقه {وَوُضِعَ الْكِتابُ} الذي فيه صحائف أعمال الخلق ليحاسب كلا بمقتضي عمله وجيء باللوح المحفوظ لمقابلته بكتب الأعمال التي دونها الحفظة ليظهر للمنكرين أن كل شيء وقع من خلقه ثابت عنده في علمه ومدون في كتابه قبل وقوعه {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} ليسألهم عن تبليغ رسالتهم وعما أجابهم به قومهم ويستشهدهم عليهم وهو أعلم بذلك كله، وإنما ليطلع عباده على ذلك وليعلموا أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا غير {وَالشُّهَداءِ} يؤتى بهم أيضا ليشهدوا عليهم وهو أعلم بما اقترفوه هذا إذا كان المراد بالشهداء الشهود، أما إذا أريد بهم شهداء الحرب الذين قتلوا في سبيل اللّه تعالى فيكون إحضارهم لإكرامهم وسرورهم بالفوز والنعيم الدائم.وإذا أريد بهم الحفظة أو الموكلون بأعمال الخلق الكاتبون لحسناتهم وسيئاتهم فيكون إحضارهم ليتلى عليهم ما دوّنوه ليسألوا عنه بحضور المكتوب عنهم ليتبين لهم هل ظلموهم بشيء من ذلك أم لا، وإذا أريد بهم الرجال العدول الأبرار من كل أمة فيكون حضورهم لسؤالهم هل أن الرسل بلغوا أممهم رسالة ربهم أم لا، لأن من الناس من يجحد مجيء الرسل، وإذا أريد بهم أمة محمد يكون المراد من حضورهم أن يشهدوا على الأمم السالفة بأن رسلهم بلغوهم أوامر اللّه ونواهيه عند ما يقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لهم من أين علمتم أنهم بلغوهم وأنتم بعدهم ولم تجتمعوا معهم؟ فيقولون من كتاب أنزله اللّه علينا ذكر فيه أن الرسل بلغوا أممهم وهو حق وصدق، ومن أقوال رسولنا محمد الذي أخبرت يا ربنا أنه لم ينطق عن هوى، وأن قوله وحي منك يوحى إليه، وقد علمنا أنه حق وأن رسالته صدق، ومما يدل على أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم التي قبلها قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية 143 من البقرة في ج 3، ومثلها الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 أيضا {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} لكل ما يستحقه بموجب عمله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 69} شيئا فلا يزاد على سيئات المسيء، ولا ينقص من حسنات المحسن وينال كل جزاء ما عمله إذا عاملهم بعدله، أما إذا عاملهم بفضله الواسع الذي يدخل فيه من يشاء جنته عمل أو لم يعمل فهو أهل لذلك فقد يعفو عن المسيء ويضاعف للمحسن أضعافا كثيرة وهو جل عطفه لا يسأل عما يفعل {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} جزاء {ما عَمِلَتْ} في دنياها من خير أو شر {وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ 70} قبل محاسبتهم وقبل الإطلاع على كتبهم والاستشهاد عليهم إذ ليس هو بحاجة إلى كتاب أو شاهد، ولكن ليعترفوا أنفسهم بما وقع منهم، وليعلموا أن اللّه ما ترك لهم مثقال ذرة مما عملوه، وأنه قضى عليهم ولهم بما يستوجبونه، لأن الحاكم إذا أفهم المحكوم عليه جرمه وأسبابه وأدلته التي أدانته به ووجه ثبوته عليه بالبراهين التي لا تقبل التأويل والحجج القاطعة لرد دفاعه يوقع الحق على نفسه ويلومها ويبرأ الحاكم من الحيف والجور والخصومة، ولا يوقر بقلبه غلا عليه، وإذا لم يفعل ذلك فيقول له لما ذا حكمت عليّ وبماذا أثبت التهمة الملصقة بي؟ ولو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم ويسند إليه الجور والحيف والخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة.قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ} محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل وبيان أسبابه وتبيانه واعترافهم بجرمهم {زُمَرًا} أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم اللّه تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل والأغلال بدلالة لفظ السوق {حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها} لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل وأغلقت أيضا، إهانة لهم وإعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم {وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها} الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم اللّه وبالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} من جنسكم في الدنيا {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ} المنزلة عليهم من لدنه {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى} إذ لم يبق مجال للإنكار والاحتجاج كما لا مجلل للفرار ولا محل لتعقيب الحكم من استئناف وتمييز وإعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم اللّه، ولهذا يقول اللّه تعالى حكاية عنهم {وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ} الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية 119 من سورة هود المارة {عَلَى الْكافِرِينَ 71} يعنون أنفسهم لأنهم كفروا باللّه ورسله وما جاءهم من الوحي {قِيلَ} فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف وشدة بعد ما سمعوا قولهم {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها} لا مخرج لكم منها البتة، وإنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر، فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 72} عن طاعة اللّه ورسله المستأنفين عن قبول النصح والإرشاد المعرضين عن الهدى والصواب والسداد.قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} التي حكم لهم بدخولها والتنعم بنعيمها {زُمَرًا} جماعات وزرافات على مراكبهم ومراتبهم، وجاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة والوقار والاحترام، فشتان بين السوقين {حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم وليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها ووقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته والسلام عليه إذ يقف الجنود والموظفون صفوفا عن يمين وشمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له وإعلاما بأنها مهيأة لهم، فيدخلون بالاحترام والتكريم وتؤدى لهم التحية عنده دخولهم وخروجهم، وهكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة، وشتان بين هؤلاء الصفوف وتلك الصفوف، راجع الآية 50 من سورة ص في ج 1.ومن هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين، وعند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب وشمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى: {وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} مقاما ونفسا {فَادْخُلُوها خالِدِينَ 73} فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله، اللهم اجعلنا منهم بكرمك {وَقالُوا} بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدنيا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ} الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا والمراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم وإلا لا مشابهة ولا مقايسة، وجعلنا {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ} من قصورها ومضاربها ومنتزهاتها التي منحنا اللّه إياها مما تشتهيه أنفسنا وتلذ أعيننا {فَنِعْمَ} الأجر {أَجْرُ الْعامِلِينَ 74} خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا، الجنة ونعيمها:نعمت جزاء المؤمنين الجنة دار الأماني والمنى والمنة {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ} عليهم محيطين بهم ومحدقين صفوفا {مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} إلى حيث يشاء اللّه تعالى إذ ذكر لنا ابتداء الغاية وسكت عن المغيا فلا يعلمها غيره لأن عرش الرحمن يكون في عرصات في الأرض، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} الآية 18 من سورة الحاقة الآتية، وذلك بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم الآتية، لأن أرضنا هذه لا تحويه وهي بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة، وقال تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا} الآية 22 من سورة والفجر المارة في ج 1، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} الآية 38 من سورة النبأ الآتية وهؤلاء الملائكة ديدنهم {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تلذذا لا تعبدا إذ لا تكليف هناك وهذا التسبيح والتحميد من الملائكة بمقابلة أبواق الجند وترتيلاتهم في الدنيا {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} من قبل الحق ووضع كل من الفريقين بمنزلته المخصصة له بقضاء قاضي القضاة الأبدي {وَقِيلَ} والقائل واللّه أعلم المؤمنون {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 75} شكرا على ما أولاهم من هذه الكرامة الأبدية، فالحمد الأول كان على انجاز وعده وإيراثهم الأرض، وهذا الحمد الثاني على القضاء بالحق فلا تكرار، والأول فاصل بين الطرفين بالوعد والوعيد والرضى والسخط، والثاني للتفريق بينهما بحسب الأبدان فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم إن الملائكة تحمد اللّه تعالى أيضا على ذلك القضاء لخلاصهم من تهم ما نسبوه إليهم من العبادة.ويوجد أربع سور مختومة بمثل هذه اللفظة هذه والصافات والقلم وكورت.هذا، واللّه أعلم، واستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اهـ.
|